اليسار الفلسطيني: تحديات المرحلة والدور المطلوب

نصار إبراهيم

 

 

يشهد الواقع الفلسطيني أزمة عميقة على مختلف الأصعدة؛ وهي تتجلى بشكل رئيسي في استمرار الانقسام الداخلي وفشل كل محاولات المصالحة؛ استمرار الحصار على قطاع غزة؛ انغلاق أفق عملية السلام في ظل التعنت الإسرائيلي ورفضها الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني وفي مقدمتها حق العودة، واستمرار سياسة الاستيطان بصورة متواصلة وخاصة في القدس المحتلة والمحاصرة؛ الاعتداءات المتواصلة ضد الشعب الفلسطيني؛ الأزمة الاقتصادية وارتفاع معدلات البطالة والفقر؛ التحولات الكبرى والاستراتيجية في الشرق الأوسط وما يترتب عليها من تغير في موازين القوى وخاصة ما يجري في سورية ومصر.. وما يرافق ذلك من حالة استقطاب طائفي وديني وعنف شامل.

 

هذا الواقع بجوانبه المختلفة يضع القوى السياسية الفلسطينية أمام أسئلة وتحديات جدية أهمها غياب استراتيجية وطنية تقوم على التوازن بين مهام التحرر الوطني وانهاء الاحتلال وتحقيق طموحات الشعب الفلسطيني في الحرية والاستقلال ومهام البناء الاجتماعي وتلبية حقوق واحتياجات المجتمع الفلسطيني الاقتصادية والاجتماعية.



هذه التحديات العميقة تكشف عجز وهامشية قوى اليسار الفلسطيني، التي وبالرغم من كل تاريخها في النضال الوطني وما قدمته من تضحيات، نراها اليوم غائبة عن الفعل والمبادرة، ونقصد بذلك القدرة على التأثير في الآحداث والتصدي الحازم لعملية تصفية الحقوق الوطنية الفلسطينية، التي تجري بفعل ديناميتين اساسيتين:



الأولى: سياسات الاحتلال الإسرائيلي القمعية والعنصرية ضد الشعب الفلسطيني سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.



الثانية: حالة الانقسام الفلسطيني وما يرافقها من عملية استقطاب سياسيي واجتماعي بين حركتي فتح وحماس وما ترتب على هذا الانقسام من ضرب لمفهوم الوحدة الوطنية الفلسطينية سياسيا واجتماعيا وجغرافيا، وأيضا تعطيل مؤسسات الشعب الفلسطيني سواء مؤسسات  منظمة التحرير الفلسطينية أو مؤسسات السلطة الوطنية الفلسطينية.



انطلاقا من هذه الحقائق فإن المدخل لمقاربة وتقييم دور اليسار الفلسطيني خصوصا ودور القوى السياسية الفلسطينية عموما بالنسبة للمواطنين الفلسطينيين كأفراد أو كشعب ليس هو الموقف من الانتخابات التي يتحدث عنها الكثيرون في هذه الأيام، فالسؤال الأهم هنا ليس المشاركة في الانتخابات أم لا، والسبب أن الفلسطينيين قد جربوا الانتخابات أكثر من مرة، وقد اكتشفوا بخبرتهم أن طبيعة التحديات التي تواجههم لا تحلها الانتخابات، بل إن غالبية الفلسطينيين أصبحت على قناعة راسخة بأن ما يسمى بالعملية الديمقراطية والتي جرى حصرها بالانتخابات التشريعية هي بمثابة خدعة كبرى، وذلك لسبب بسيط وهي أن القوى التي تتحكم بالمسارات السياسية في المنطقة وتتحكم بالمساعدات الدولية وفق شروط الدول المانحة، عندما رأت أن نتائج تلك الانتخابات لم تكن كما تتوقع، قامت بتجاوزها (لنتذكر انتخابات المجلس التشريعي عام 2006، عندما فازت حركة حماس بأغلبية أعضاء المجلس التشريعي، لنتذكر ردود فعل الولايات المتحدة وإسرائيل والدول الغربية التي قاطعت الحكومة الفلسطينية الجديدة، وفرضت الحصار الاقتصادي على الشعب الفلسطيني وأوقفت تدفق المنح والمساعدات... ثم جاء حصار غزة المستمر منذ عام 2007 ثم الحرب العدوانية على القطاع عام 2008 "عملية الرصاص المصبوب" ، ثم الحرب عام 2012 " عملية عمود السحاب" ).



إذن السؤال الأساسي الذي يواجه قوى اليسار الفلسطيني (الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وحزب الشعب الفلسطيني والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين) في هذه المرحلة ليس سؤال الانتخابات، فقبل هذا السؤال هناك مجموعة من الأسئلة الكبرى التي على تلك القوى الاجابة عليها قبل أن أن تستنزف طاقتها المتبقية في سؤال الانتخابات التي أثببت التجربة والواقع أنه أقل أهمية بكثير مما يعتقد ويفكر من لا يعرف حقائق الواقع الفلسطيني وطبيعة الصراع والتناقضات في الشرق الأوسط، ومن تلك الأسئلة:



هل قوى اليسار الفلسطيني، تملك القدرة والإرادة على إعادة تجديد ذاتها داخليا؟ وهل هي قادرة على صياغة استراتيجية موحدة لقوى اليسار الفلسطيني لكي تجيب على الأسئلة الحارقة التي يواجهها الشعب الفلسطيني، سياسيا واجتماعيا واقتصاديا؟ وهل قوى اليسار الفلسطيني قادرة على تقديم نفسها كقوة سياسية واجتماعية وثقافية ونضالية لكسر معادلة الاستقطاب المدمرة بين حركة حماس، بخياراتها الاجتماعية والثقافية التي تقوم على مقاربة الإسلام السياسي الذي يعيش أزمة في مصر وسورية وتونس وليبيا وتركيا.. وحركة فتح التي تتموضع خياراتها في سياق التجربة النيوليبرالية سياسيا واجتماعيا واقتصاديا؟



التصدي لهذه الأسئلة وغيرها الكثير هو الذي سيحدد مستقبل ودور قوى اليسار الفلسطيني، ولن ينقذ هذا اليسار تحميل مسؤولية ما يجري في الواقع الفلسطيني على حركتي حماس وفتح، بل إن ضعف اليسار وتشتته وجموده وفقدانه للمبادرة والحيوية يحمله مسؤولية أساسية عن تهميش دور اليسار الفلسطيني الموضوعي، الذي من المفروض أن يشكل قوة إنهاض وقوة تصحيح لاختلال المعادلات الفلسطينية.



فإذا لم يتميز اليسار الفلسطيني بالحيوية والمبادرة في مجابهة الأسئلة الاجتماعية والسياسية والثقافية التي يفرضها الواقع الفلسطيني، فأي يسار هو إذن؟!



الآن هي اللحظة التاريخية ليغادر اليسار الفلسطيني حالة السبات والهامشية نحو المبادرة والفعل، وإذا لم يبادر فسيختفي عن مسرح الأحداث والتاريخ، الشعب الفلسطيني يراقب وينظر ويعاني ويضحي، وفي نفس الوقت يتابع ما يجري على المستوى العربي والعالمي، وهو يدرك في أعماقه حالة الارتباك والتردد والميوعة التي تحكم مواقف وممارسة قواه السياسية بمختلف أطرافها في التعامل مع اللحظة التاريخية.



هي لحظة مناسبة لقوى اليسار الفلسطيني ليتحرك، ذلك لأن طرفي حالة الانقسام والاستقطاب في الشارع الفلسطيني (حركة فتح وحركة حماس) يعيشان أزمة عميقة، وخياراتهما ورهاناتهما دفعت بالشعب الفلسطيني وحقوقه نحو زاوية خطرة، فحماس تعيش أزمة حقيقية بعد تموضعها السياسي الأخير وربط مصيرها بمصير حركة الإخوان المسلمين في المنطقة والتي باتت تواجه أزمة جدية في مصر وسورية وتركية، وفتح أيضا تعيش حالة أزمة سياسية في ظل فشل مشروعها السياسي في الرهان على أوسلو والدور الأمريكي، كما فشل خيارها الاقتصادي عبر فشل سياسة الانفتاح والارتباط بالبنك الدولي.. لهذا فإن اللحظة مناسب لكي تنهض قوى اليسار الفلسطيني لتقدم مشروعها واستراتيجيتها الجديدة، ولكن هذا مشروط بقدرتها على تقديم قراءة شاملة وعميقة للتحولات السياسية التي تجري في المنطقة والعالم وانعكاسها على القضية الفلسطينية، وأيضا إعادة تجديد مشروعها الاجتماعي الثقافي الذي يدافع عن حقوق غالبية الشعب الفلسطيني من الفقراء والعمال والطبقة الوسطى التي تدفع ثمن خيارات القوى الرجعية الدينية والقوى الرجعية النيوليبرالية.



قوى اليسار الفلسطيني عليها الآن أن تتقدم ببديلها السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي الذي يتجاوز خيار الأسلام السياسي الذي تمثله حركة حماس على كل الأصعدة، كما يتجاوز خيار حركة فتح الذي انكشف أيضا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.. والخيار اليساري الذي أتحدث عنه هنا هو البديل أو الخيار الذي بقدر ما تكون القضية الفلسطينية بأسئلتها المتشابكة محوره إلآ أنه في ذات الوقت يتحرك كجزء من الخيار القومي العروبي التقدمي الذي تشكل مساحة العالم العربي السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية إطار فعله الثابت، وهذه المقاربة ليست اختيارية بل هي شرط موضوعي وصارم، ذلك لأن حالة النهوض والمقاومة الفلسطينية هي جزء طبيعي من منظومة النهوض والمقاومة العربية، في مواجهة المنظومة الاستعمارية الرجعية الصهيونية النقيضة التي تفعل وتتفاعل في عموم مساحة العالم العربي..



هذا الخيار، ببؤرته الفلسطينية المندمجة مع حاضنتها العربية، يتحرك بطبيعة الحال ليتموضع أيضا وبصورة موضوعية في سياق فضائه العالمي أو الأممي المنحاز وبوضوح كامل ضد منظومات الهيمنة والاستغلال والاضطهاد التي تمثلها الرأسمالية المتوحشة عبر منظوماتها السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، أي التموضع مع القوى التقدمية والديمقراطية والتحررية العالمية الممتدة على مساحة القارات الست.



إنجاز هذه العملية ليس أمرا سهلا، بل هو عملية شاقة بكل المقاييس النظرية والعملية، وهي تستدعي التقييم والنقد والتحليل ورؤية حركة الواقع والاستراتيجيات والمصالح المتصادمة، كما تشمل أيضا إعادة تجديد وبناء الذات لقوى اليسار الفلسطيني بحيث تستعيد حيويتها المفقودة، وتعيد ربط خطابها السياسي والثقافي مع الواقع الاجتماعي باعتباره المرجعية الوحيدة للفعل والتأثير.



خلاصة القول، أنه بدون رؤية سياقات الواقع وتجارب الشعب الفلسطيني وما يواجهه الآن من أسئلة كبرى فإن إشغال قوى اليسار الفلسطيني بسؤال الانتخابات لا يعود له معنى أو قيمة. فقبل هذا السؤال هناك أسئلة وتحديات سياسية واجتماعية وثقافية ونضالية هائلة تواجه قوى اليسار الفلسطيني، وانشغال تلك القوى بالانتخابات قبل الاجابة عليها يعني أنها لم تفهم درس التاريخ كما لم تفهم الواقع، وبهذا تفقد أهم شروط يساريتها.