أي قيادة فلسطينية لا تتصرف وكأنها دائما على صفيح ساخن فلترحل

بقلم: نصار إبراهيم

 

لأنها فلسطين وقضية شعب فلسطين،  ولأن مشروع استعمار فلسطين هو مشروع التموضع في قلب العالم العربي، ولأن المشروع الصهيوني هو مجرد رأس الجسر للسيطرة، ولأن إسرائيل هي وليد سايكس - بيكو، فإن أي قيادة لا ترى ذلك وتعتقد أن خوض الصراع هو مجرد مفاوضات وحفلات علاقات عامة، وفلهوة لضمان تدفق الأموال، ومجرد تسهيلات وامتيازات وبطاقات شخصيات هامة (في. أي .بي )، وأن استرجاع وحماية حقوق الشعب الفلسطيني السياسية والاجتماعية والاقتصادية  يحتاج فقط إلى ما يشبه إدارة شركة أو مجرد مفاوض يتمتع بابتسامة ساحرة ولغة إنجليزية شكسبيرية، فإن شلال الدم الفلسطيني سيتواصل ويغور في رمال السياسة الجافة لقيادة فقيرة العقل والخيال والإرادة.

ولأنها فلسطين، فهي تعيدنا دائما إلى جذر التناقضات والصراع في العالم العربي، اي التناقض بين مشروع استعماري تاريخي  للهيمنةوالسيطرة والنهب، ومناقض لمصالح وحقوق وطموحات الأمة العربية، ومشروع  تحرري قومي تقدمي تاريخي يستهدف وحدة الأمة وحماية ثرواتها ومصالحها وحقوقها وكرامتها...وهو أيضا التناقض بين مشروع طبقي لسماسرة الأوطان والشعوب وسرقة ثرواتها ولقمة عيشها وضمان الحصة من الشركات العابرة أو المستوطنة، ومشروع اجتماعي - طبقي - قومي نقيض يحمي ويصون  الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية  للغالبية الساحقة للشعوب بطبقاتها وفئاتها المنتجة اقتصاديا وثقافيا واجتماعيا.

إذن معادلات المواجهة ليست مبنية على المقاربات الأخلاقية وإن كانت الأخلاق تتموضع في نهاية المطاف في السياق، بل هي معادلات محكومة بسياقات ومصالح طبقية واضحة،فخيارات وانحياز ومواقف وسياسات وتحالفات وممارسة الأسر والشلل الحاكمة في بلدان الخليج مثلا ليست مجرد تهويمات وانحيازات نتيجة الغباء والتخلف، بل هو انحياز واع دفاعا عن المصلحة الضيقة لأسر لصة وناهبة وتابعة بوعي لحلفائها ومدينة بوجودها لهم.. إذن هي قوى اجتماعية حاكمة (قل عنها ماتشاء رجعية، متخلفة، جاهلة، ساذجة، غبية، جبانة.... ) ولكنها في النهاية  تتصرف انطلاقا من وعي مصالحها وامتيازاتها، فهي مبدعة على طريقة مدير الكازينو، لا يهم الغش والخداع، وتوظيف العاهرات والقوادين والإسقاط والسقوط، المهم أن تبقى الملايين تتدفق... ومثال آخر هو قيادة مصر في حقبة السادات ومبارك حيث تحولت مصر إلى  مزرعة وسوق للقطط السمان وليس مصر الصعيد وحلوان وابن العشة و ( يا بيوت السويس يا بيوت مدينتي .. استشهد تحتك وتعيشي إنت)، وكما برهنت تجربة التاريخ  والواقع فإن سقوط مصر في هذا المسار الطبقي الاجتماعي الاقتصادي السياسي الثقافي قادها موضوعيا إلى كامب ديفيد والحلف الأمريكي الرجعي العربي.   

وفي ذات السياق نحاكم ونقارب تجربة القيادة الفلسطينية فهي ليست من خارج التاريخ وليست نبتا شيطانيا، فهي ابنة مصالحها أيضا، وإلا كيف نفسر هذا الهبوط في الأداء السياسي، وكيف نفسر الخيارات السياسية الراهنة، وكيف نفسر الخطاب السياسي المتناقض مع بديهيات حقوق ووعي الشعب الفلسطيني..من هنا فإن أي قيادة فلسطينية تتصرف وتسلك انطلاقا من الدفاع عن مصلحة طبقة ضيقة لا يمكن لها إلا أن تكون متساوقة مع مشروع الهيمنة والسيطرة والتناقض مع غالبية الشعب الفلسطيني، وبهذا فهي تصطف وتبحث ذاتيا وموضوعيا عن التقاطعات مع الإحتلال وحليفته منظومة الهيمنة الاستعمارية لكي تحافظ على مصلحتها وحصتها، فهي ترى أن شرعيتها تأتي من هناك، وأي شرعية غير ذلك هي شرعية لها سياقاتها وبناها النقيضة تماما...

من هنا... تطرح الحالة الشعبية الفلسطينية الراهنة، ويطرح الاشتباك القائم الآن أسئلة مفصلية وحاسمة على الحركة السياسية والقوى الاجتماعية الفلسطينية، من نوع هل يمكن الاستمرار في إدارة الصراع بأداء وسلوك ومقاربة بذات المضمون والسقوف التي حكمت أداء ومقاربات القيادة الفلسطينية في السنوات الماضية؟ وهل  الحركة الشعبية الفلسطينية تعي أن استمرار تضحياتها  بدون شرط وجود أو إيجاد قيادة تعكس هذا الواقع وتحمي حقوق وإرادة وكرامة هذا الشعب  سيعني الاستمرار في الدوران في حلقة مفرغة؟ 

هل تعي القيادة الفلسطينية، بكافة أطيافها، أنها أمام تحول نوعي وعميق في الوعي الجمعي الفلسطيني، تحول لا يمكن السيطرة عليه أو إخضاعه لسقوف ومعادلات سياسية وطبقية وثقافية هي أقل بكثير من تحديات اللحظة وأقل بكثير من الاستحقاقات التي تفرضها مقاومة ووعي الشعب الفلسطيني المتكئ إلى تاريخ وذاكرة مليئة بالتضحيات والبحث عن وطن مفقود؟

 هل تعي القيادة الفلسطينية أن قضية فلسطين وحقوق شعب فلسطين لا يمكن فصلها عن حالة الاشتباك والمواجهات الطاحنة التي تجري في العالم العربي والتي لا تنفع معها سياسة التعامي ودفن الرأس أو اللغة المائعة والعائمة والغائمة؟ فإما أن تكون فلسطين هنا أو لا تكون، فقضية فلسطين، وبالطبيعة،هي على النقيض من الرجعية والتبعية والتخلف، وهي على النقيض من كل ما يضعف صمود الأمة العربية، وهي على النقيض من كل ما يمزق ويفتت، وعلى النقيض من الطائفية،وعلى النقيض من العنصرية والتعصب والتمييز، كما أنها بالتأكيد على النقيض من الاستغلال والنهب والسرقة واللصوصية والنفاق، وهي على النقيض من قمع الحريات وإهانة الناس...و...و...

                                                                             

و هنا يجدر التنويه إلى أن النقاش هنا يتعرض لقضية سياسية واجتماعية وثقافية بامتياز، وليس الهدف منه  تناول الأشخاص بالمعنى الشخصي، المسألة أكبر من ذلك، النقاش  يستهدف مفهوم منظومة القيادة وشروطها الذاتية والموضوعية، وليس المقصود الشتم أو التفريغ النفسي... إذن الحديث يستهدف البنى والديناميات والقدرة على رؤية التحولات العميقة في المجتمع الفلسطيني والتحولات في المزاج العام وأيضا رؤية التناقضات المتراكمة التي تنفجر في وجه الجميع بين وقت وآخر...لكنها تتراكم باتجاه تحولات جذرية تعيد سرد السياقات بما ينسجم مع طبيعة وجوهر ونواظم الصراع البديهية والعملية، وبما يعيد العلاقة الحيوية بين القيادة والشارع، والمقصود هنا القيادات السياسية للحركة الوطنية بمجملها.

 

لكل هذا كانت فلسطين وقضية فلسطين في الواقع العربي الممتد من المحيط إلى الخليج معيارا لقياس قومية ومصداقية أي سلطة أو حزب أو سلطان... بما في ذلك السياسات الداخلية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية... ليس ذلك لأن فلسطين أفضل من غيرها... بل لأن مشروع استعمار فلسطين ونجاح هذا الاستعمار هو عامل العوامل في رسم الاستراتيجيات والتحالفات وتحديد السياسات والخيارات على مختلف المستويات، ففلسطين هي رأس جسر لا أكثر ، ومن يعتقد أن رأسه بعيد عن شفرة المقصلة عليه أن يعيد حساباته ويصحح أولوياته ويعيد رسم استراتيجياته من جديد، فمن فلسطين يتحرك الأخطبوط... وفقط من يندرج ويتساوق معه سيتم قبوله كموظف تحت مظلةالهيمنة، أما من سيختار وبوعي عميق المواجهة والمقاومة فعليه إذن أن يعد ويستعد فالمعادلات والخيارات حينها هي أكثر من واضحة.

لهذا فإن أي قيادة فلسطينية لا تعي وتدرك هذه الأبعاد الهائلة، وتتصرف بناء على ذلك ستصدم رأسها الهش باستمرار في جدار الواقع والوقائع الصلبة....كما أن أي قيادة تتصرف وكأنها أكبر من الشعب الفلسطيني، أو أذكى منه، أو تعتقد أنها قادرة على إخضاعه أو لجمه تحت سياسات وسقوف هابطة، ستكتشف دائما وباستمرار أيضا  أنها مخطئة وأيضا خاطئة...

وفي النهاية أعيد: بأن أي قيادة للشعب الفلسطيني لا تتصرف وكأنها دائما على صفيح ساخن... ستتفاجأ دائما باحتراق الأرض من تحت أقدامها... وحينها لا معنى للدهشة والاستغراب ... لأنها ستكشف بدهشتها تلك كم هي ساذجة، وبالتالي كم هي قيادة لا تصلح لشعب لديه القدرة دائما على إشعال الأرض وتفجير البراكين... وللحديث بقية

Write a comment

Comments: 0